لم تكن هذه الطفرة وليدة الصدفة، بل كانت نتاج خطة حكومية طموحة بهدف تحويل الصين إلى قوة كروية عظمى قادرة على الفوز بكأس العالم بحلول عام 2050، قبل أن ينهار المشروع بشكل حاد ومأساوي ليعود إلى مستويات الصفر تقريباً في الوقت الحالي، وهو ما استعرضته صحيفة "آس" الإسبانية في تقرير مطول.

حقبة الثراء الفاحش (2013 - 2017)
بدأ التحول الجذري مع تولي "شي جين بينغ" السلطة في عام 2013، حيث بدأ منحنى الإنفاق في الارتفاع التدريجي قبل أن ينفجر رأسياً بدءاً من موسم 2014/2015. خلال هذه الفترة، تحولت الصين إلى "الدوري المختار" للنجوم الباحثين عن تقاعد ذهبي أو حتى لاعبين في أوج عطائهم أغرتهم الرواتب الفلكية التي عجزت أندية النخبة الأوروبية عن مجاراتها.
أسماء رنانة مثل البرازيليين "هالك" و"أوسكار" و"باولينيو"، والأرجنتيني "كارلوس تيفيز"، والبلجيكيين "فيتسل" و"فيلايني"، حزموا حقائبهم نحو الشرق الأقصى.
ذروة هذا الجنون المالي كانت في موسم 2016/2017، حيث لامس سقف الإنفاق على الانتقالات حاجز الـ 550 مليون يورو، وهو رقم غير مسبوق آسيوياً.
كان هذا البذخ مدعوماً بتوجيهات حكومية شجعت الشركات الكبرى والتكتلات العقارية الضخمة، مثل "إيفرجراند" و"مجموعة واندا"، على ضخ مئات الملايين في الأندية، تماشياً مع خطة الـ 50 إجراءً التي تضمنت بناء آلاف الملاعب وجعل كرة القدم مادة إلزامية في المدارس، في محاولة لصناعة مجد كروي سريع يعتمد على القوة الشرائية الهائلة.
AFPبداية تصدع الهيكل المالي (2017 - 2019)
رغم الزخم الهائل الذي أحدثته الصفقات المليونية، سرعان ما بدأت تظهر تشققات في جدار هذا المشروع الطموح، من خلال الانخفاض الحاد والمفاجئ في الإنفاق بعد قمة 2016/2017، حيث هبط المؤشر إلى ما يقرب من 200 مليون يورو في موسم 2017/2018.
يعود هذا الهبوط إلى إدراك الحكومة الصينية أن النمو كان "مصطنعاً" وغير مستدام؛ فالأندية كانت تراكم ديوناً ضخمة عبر إنفاق مبالغ تتجاوز بكثير إيراداتها الفعلية.
نتيجة لذلك، تدخلت السلطات في عام 2017 بقرارات صارمة لترشيد الإنفاق، شملت فرض "ضريبة رفاهية" على التعاقدات الأجنبية ووضع سقف للرواتب، في محاولة متأخرة لكبح جماح التضخم ومحاربة فساد بعض الإداريين.
ورغم محاولة السوق التعافي في موسم 2018/2019، حيث يظهر الرسم ارتفاعاً طفيفاً آخر، إلا أن الأساس الاقتصادي للأندية كان قد بدأ ينهار بالفعل. الشركات العقارية التي كانت تمول هذا البذخ بدأت تعاني من أزمة "فقاعة العقارات"، مما جعل الاستمرار في ضخ الأموال في كرة القدم أمراً مستحيلاً، لتبدأ الأندية في مواجهة واقع مالي مرير أدى لاحقاً إلى إفلاس بعضها واختفائه تماماً من الخارطة.
الضربة القاضية.. جائحة كورونا (2020 - 2023)
تلقى المشروع الكروي الصيني، الذي كان يترنح بالفعل، ضربة قاصمة ومميتة مع حلول عام 2020 وتفشي جائحة كوفيد-19. انخفض منحنى الإنفاق بشكل حاد وسريع ليقترب من القاع في المواسم التالية لعام 2020. الجائحة لم تتسبب فقط في إيقاف المنافسات لمدة عام كامل، بل أفرغت المدرجات من الجماهير لفترة أطول، مما قضى على عوائد التذاكر والرعاية التي كانت تشكل شريان حياة للأندية.
علاوة على ذلك، أدت العزلة التي فرضتها الصين والقيود الصحية الصارمة إلى هروب جماعي للنجوم والمدربين الأجانب الذين لم يعودوا يحتملون العيش في ظل نظام الفقاعة الصحية المغلقة.
في هذه المرحلة، تأكد فشل الرهان الكبير؛ فالصين استطاعت شراء عقود اللاعبين بأموال طائلة، لكنها فشلت في شراء "شغف" الجماهير أو بناء ثقافة كروية حقيقية، حيث ظل "تنس الطاولة" هو الرياضة الشعبية الأولى.
أدى هذا الانهيار الاقتصادي إلى كوارث رياضية، أبرزها حل نادي "جيانجسو سونينج" بطل الدوري، في مشهد سريالي يعكس هشاشة الأساس الذي بنيت عليه هذه النهضة المزعومة.
Getty Images Sportالعودة إلى نقطة الصفر (2024 - 2025)
نصل في نهاية المطاف إلى الواقع الحالي الذي يجسده موسم 2024/2025، حيث استقر مؤشر الإنفاق عند مستويات متدنية للغاية تكاد تلامس الخط الصفري، وهي مستويات تقل حتى عما كانت عليه قبل وصول "شي جين بينغ" للسلطة في 2005/2006.
مع رحيل آخر النجوم الكبار مثل "أوسكار" الذي عاد إلى البرازيل في يناير 2025، طوت الصين صفحة البذخ نهائياً وبدأت عملية إعادة بناء تعتمد على التقشف والواقعية.
لم يعد الدوري الصيني وجهة للنجوم العالميين، بل أصبح يعتمد الآن على اللاعبين المحليين ومحترفين من الفئة المتوسطة، كما نرى مع التواجد الإسباني الحالي المتمثل في لاعبين مثل "ألبرتو كيليس" و"أوسكار ميليندو"، الذين يلعبون في بيئة كروية مختلفة تماماً عن حقبة الملايين.
وعلى الجانب الآخر نجد طفرة منظمة ومحسوبة في دوري روشن السعودي، والتي أكدت إمكانية التمتع بتواجد منافسة محلية يمكنها مزاحمة عمالقة أوروبا.
انتهى "الحلم الصيني" بالسيطرة على كرة القدم العالمية، وتحول الطموح الجامح إلى ذكرى لفقاعة انفجرت، تاركة وراءها ملاعب ضخمة وديوناً، ودرساً قاسياً بأن الأموال وحدها لا تصنع مجداً كروياً مستداماً.