عندما طلب أحد المشجعين من نورا سيف القميص لم تتمالك نفسها من السعادة.. لكن في الوقت ذاته كان عليها أن تتوجه نحو غرفة خلع الملابس أولًا لتستبدله بآخر، فمن غير المقبول أن تخلع قميصها على أرضية الملعب أمام هذا الحشد من الجماهير.
مدرجات استاد الإسكندرية ممتلئة للغاية.. هكذا تكون العادة عندما يلعبن سيدات سموحة مباراة في كأس مصر والتي في الأغلب تكون مذاعة على التليفزيون المصري.
نجمة الفريق نورا سيف تألقت كعادتها ولفتت الانتباه ليطالبها أحد المشجعين بالقميص عقب التتويج بالبطولة، فوجئت بالطلب وطالبته بالانتظار لتذهب إلى غرفة الملابس وسرعان ما عادت حاملة إياه ومعه الميدالية الخاصة بها لتهديها لطفله الصغير.
لم تشعر نورا في تلك اللحظة أنها بحاجة إلى هذه الميدالية أكثر من الامتنان والتشجيع.. "لديّ الكثير من الميداليات وكنت سعيدة وممتنة بأن أحدهم تقدّم إليّ وطالبني بقميصي".
نورا سيف فتاة مصرية من الإسكندرية لا تقبل الرفض كإجابة منذ أن بدأت تخطو خطواتها الأولى نحو العالم الخارجي رفقة أخيها الذي اعتاد لعب كرة القدم في الشارع.
أعجبها ما رأته وأرادت تجربته لكن "أخبروني أنه لا يمكن للفتيات لعب كرة القدم، لم أفهم ذلك فما المانع؟ اخترعت أساليبًا لمضايقتهم، فكنت أرشقهم بالحجارة أثناء اللعب حتى وافقوا على إشراكي".
وما إن لبث الأطفال في تقسيم الفرق "لم يرغب أحد في ضمي، لا أحد يريد إضعاف فريقه".. وما هي لحظات حتى تبدلت الآراء، فبمجرد أن ظهر ما يمكن أن تفعله نورا بالكرة، لم تعد الفتاة التي لا يريد الصبية حمل عبء اللعب معها، بل الفتاة التي يتشاجر الفريقان على ضمها.
بدأت نورا اللعب لمركز شباب المنطقة القاطنة بها، سموحة بالإسكندرية. فتاة واحدة بين 10 فتيان "لم يشعرني أحدًا أنني مختلفة أو أنه ليس مكاني بل دافعوا عني عندما تهكّم لاعبو فرق المراكز الأخرى على وجود بنت في الفريق".
عالم وجدت نورا فيه نفسها أكثر من أي مكانٍ آخر لتتخذ القرار "أخبرت الجميع أنني أريد أن أصبح لاعبة قدم محترفة". لم يستقبل أهلها الأمر بسهولة خاصة الأخ الكبير الذي عارض بضراوة لسنوات "حُرمت من المصروف، لم تساعدني سوى والدتي التي آمنت بما أحب، كانت تقترض الأموال من أجلي لبدء مسيرتي الاحترافية الأولى مع نادي سموحة".
وفي عام 1998 بدأت نورا رحلة مع نادي سموحة الذي توجت معه بست بطولات ونالت لقب هدافة كأس مصر وجائزة أفضل لاعبة عدة مرات، وخلال تلك المسيرة انضمت إلى المنتخب عندما كانت تبلغ من العمر 14 عامًا كأصغر لاعبة في الفريق.
صخب العاصمة
أعوامٌ كانت قابلة للزيادة لكن تم تسريح اللاعبات وحل الفريق، وجدت نفسها أمام خيارين إما ترك الإسكندرية أو كرة القدم، ولكم أن تتخيلوا ما الذي اختارته..
لم يكن خيارًا لـ نورا وانتقلت مباشرةً إلى وادي دجلة عام 2010 تاركةً الإسكندرية صوب القاهرة. قرار بدا سهلًا في البداية إذ قررت السفر والعودة في نفس اليوم، لكن مع مرور الأيام والشهور لم تعد تحتمل السفر يوميًا، لتتخذ قرار الاستقرار في العاصمة.
دعني أشرح لك باقتضاب ما تواجه إذا كنت شخصًا تربيت خارج القاهرة وقادتك الحياة للاستقرار فيها ولحسن الحظ أننا لدينا مثال هنا "اضطررت للمبيت عند بعض من أصدقائي وهو ما كان يشعرني بالحرج وعدم الراحة، لم يكن الاستقرار في القاهرة خيارًا مطروحًا لأنه مكلفًا للغاية، عانيت من ازدحام وسائل النقل لأصل إلى الملعب، الأمر كان شاقًا للغاية".
مشكلة تم حلها حين جهّز النادي غرفًا لمبيت اللاعبات المغتربات ثم وفّر شقةً في وقت لاحق لأجل هذا الغرض.
في وسط هذا الصخب عاشت نورا مستمتعة بحياتها وكونت صداقات منها أحمد جلال الذي كان يعمل في نادي وادي دجلة وجعل حياتها أكثر سهولة في القاهرة، كان كثيرًا ما يقلها إلى السكن واعتادا التجول في الشوارع سيرًا على الأقدام فتوطدت هذه العلاقة "وجدت نفسي أذهب إلى أهلي أخبرهم أن هناك شخصًا سيأتي لمقابلتهم من أجل خطبتي، فوجئت أمي بذلك، فلطالما لاحقتني برغبتها في زواجي ورؤية أحفادها، ولا أخفيكِ سرًا لم أشعر في يوم أنني سأتزوج وأستقر".
تزوجت نورا من أحمد عام 2018، وبعد أسبوع عادت إلى التدريبات مباشرةً كأن شيئًا لم يحدث فلم ترغب في الابتعاد طويلًا عن اللعبة التي تعشقها لكن القدر كان له تدبيرًا آخر في إبعادها..
بعد عام تعرضت نورا للإصابة بقطع في الرباط الصليبي وهنا قررت انتهاز الفرصة لتحقيق حلم الأمومة المؤجل "قررت الإنجاب وأنا أنوي العودة من جديد إلى اللعب، كما كنت أصغر لاعبة في المنتخب وأول لاعبة تعود للملاعب مباشرة بعد الزواج أردت فعل ما لم يسبقني غيري إليه وأعود بعد الولادة".
رُزقت نورا بـ ليلى وأوفت بعهدها وعادت إلى كرة القدم، وذات مرة لم تجد مكانًا لترك ابنتها أثناء التدريب لتصطحبها معها إلى التدريبات "ابنتي كانت تبلغ من العمر 10 أشهر ولا أملك عائلة هنا، لم يكن لديّ خيار، أجلستها على مقاعد البدلاء وعندما بدأت في البكاء بسبب الجوع ذهبت وأحضرت "الببرونة" لإطعامها، فوجئت بعدها بانتشار الصورة وتعرضي لنقد لاذع وسخرية شديدة، لم أفهم ما يحدث ماذا كنت أفعل أتركها جائعة؟ أم أتوقف عن ممارسة ما أحبه!".
الأمومة لم تكن سبب نهاية مسيرة نورا في الملاعب بل إصابة لعينة أخرى حيث علمت بمعاناتها من التهاب في الأوتار وهنا اتخذت القرار الأصعب: الاعتزال.
لكن، لم تتخل نورا عن كرة القدم ولم تفارق ابنتها حيث اتجهت للعمل بالتدريب ولا تزال ليلى ترافقها خطوة بخطوة.
"من أجل ليلى"
رغم كل شيء ترفض نورا أن تلقي بالًا للحظات السيئة التي عاشتها "لا أحاول تذكر ما مررت به، فقد مررت بالكثير، أنا أمارس لعبة لم يكن مرحبًا بوجودي فيها وتكبدت الكثير لأجلها، أعمل الآن في قطاع البراعم بوادي دجلة وتسرني رؤية موارد متاحة للجيل الجديد لم يكن لها نظير في أيامنا".
"تعرضت للكثير ولا أريد أن تواجه ليلى ما واجهته، كل ما أفعله من أجل ليلى" كأن نورا لا تتحدث عن ليلى فقط التي ترغب في رؤيتها حاملة الشعلة عنها وتصبح لاعبة تخلف أمها على المستطيل الأخضر بل عن كل ليلى وكل نورا تحلم باللعب وركل الكرة، في زمن بات أكثر تقبلا وقدرة واستعدادًا على استيعابهن.
.jpg?auto=webp&format=pjpg&width=3840&quality=60)

