المال يحكم العالم أم أن تلك الأوراق لا تتحكم أبدًا في الإنسان؟ إنه سؤال طُرح لقرون وعجز الجميع عن إجابته، بل في الواقع كان سببًا في صراعات فكرية كثيرة وحتى سياسية، ولم تفلت الرياضة من هذه المعضلة بل إنها وفي الآونة الأخيرة باتت جزءًا لا يتجزأ من سؤال.. المال أم العواطف؟
تعود الحكاية برمتها إلى انتقال ليونيل ميسي إلى باريس سان جيرمان بعد كل تلك السنوات في برشلونة، حاول البرغوث التضحية بجزء من راتبه وفشل، في النهاية استقر في حديقة الأمراء براتب سنوي يُقال أنه سيصل إلى 45 مليون يورو.
طرح ما حدث مع ميسي الأسئلة حيال قيمة المال في كرة القدم، هل باتت حقًا هي المتحكم الأول في عالم الساحرة المستديرة وذهبت تلك المعاني الخالدة التي جسدت عبق اللعبة وجمالها كالوفاء والانتماء والحب والعلاقة بين اللاعب والجمهور؟ أم أن ميسي ومن قبله نيمار وأمثلة أخرى ما هم إلا شواذ للقاعدة الأصلية بمدى استثنائية كرة القدم؟
كل هذه الأسئلة يضاف إليها سؤال آخر هام، هل يستحق لاعبو كرة القدم هذه الرواتب الخرافية حقًا؟
"سراب" الوفاء.. حقيقة أكدها جشع ميسي وقبله رونالدو في زمن الاحتراف!
تاريخيًا.. المال مؤثر ولكن!
Depophotosبالنظرة إلى تاريخ كرة القدم عبر السنوات، لن يكون اكتشافًا مفاجئًا أن المال كان أحد أهم عناصر النجاح للأندية في الماضي وحتى مع بدايات الساحرة المستديرة في الانتشار.
ولعل الأمثلة هنا كثيرة، فمثلًا ريال مدريد في خمسينيات القرن الماضي ضم كل اللاعبين الجيدين في العالم مستغلًا قدرته المالية، وكانت النتيجة الهيمنة المطلقة على أوروبا.
برشلونة وصفقاته في السبعينيات، بايرن ميونخ وانطلاقته لريادة الكرة الألمانية، وغيرها الكثير من الأمثلة، تطرح حقيقة واحدة وهي أن المال يحكم كرة القدم منذ سنين.
لكن الفارق بين الماضي والآن شيء بسيط للغاية، حجم الفجوة!
في الماضي وربما حتى 2010، كانت الفجوة بين الأثرياء والفقراء في كرة القدم ليست كبيرة أو ضخمة، يمكن سدها بصورة أو بأخرى كقطاعات الشباب الفعّالة أو أشياء من هذا القبيل.
لكن الآن؟ بنظرة فقط إلى وضع الدوري الفرنسي، تجد باريس سان جيرمان في وادٍ والبقية في وادٍ من الناحية الاقتصادية، الفجوة كبيرة جدًا ولا يمكن إغلاقها أبدًا.
على هذا الأساس، كان طرح فكرة دوري السوبر الأوروبي منطقيًا للبعض بما في ذلك الأندية المشاركة، ففرص ديجون أو سبورتينج خيخون أو حتى بادربورن في اللحاق بركب الكبار أشبه بالحلم.
خلاصة القول في هذه النقطة، نعم المال أثر في كرة القدم وسيظل عاملًا حفازًا أساسيًا، لكن مؤخرًا صار العامل الأول وليس من ضمن عوامل أخرى مؤثرة كالجماهيرية والعواطف وما إلى ذلك ونتيجة ذلك كانت فجوة لا توصف بين الكبار والصغار.
يورجن كلوب لم يكذب
Getty Imagesفي القرن التاسع عشر، كانت المتعة الكبرى للبسطاء وحتى الأثرياء نشاطات مختلفة، نُظر إلى جزء كبير منها بنفس النظرة الحالية لكرة القدم، مجرد تفاهة معشوقة من الناس، وهكذا كان قبل هذا القرن وحتى بعده، تتباين المتاع أو ما يمكن أن يُطلق عليه "ترفيهيات".
في حديث سابق له، اعتبر يورجن كلوب أن كرة القدم مجرد لعبة وأن هدفها هو إسعاد الناس ورسم البسمة على وجوههم ليس إلا، ومن حسن حظه أنه أجادها في وقت حظيت فيه بالشعبية، نظرية عبقرية طرحها مدرب ليفربول بكل المقاييس.
مهما كان وضع الإنسان، فإنه على استعداد لإنفاق عمل أشهر من أجل لحظة سعيدة، هذا هو طبعه، وكرة القدم أسهل الوسائل لتحقيق هذه الغاية.
بُنيت على هذا الأساس شعبية الساحرة المستديرة، ثم دخل بها عالم الأعمال كما توغل في كل شيء منذ بداية الخليقة بصورة مختلفة، والنتيجة كان التضخم الهائل في الأموال والكسب الاستثنائي لها من قبل نجوم كرة القدم.
الحقيقة أن العالم يحتوي على 7 مليار إنسان، إن كان منهم مليون أو ربما أقل يجيدون أكثر ما يستمتع الناس به في أوقات فراغهم، فهم حقًا يستحقون أن يحصلون على دخل كبير من إتقان ما لا يتقنه غيرهم.
وعند الحديث عن ليونيل ميسي ونيمار وكريستيانو رونالدو وتلك الأساطير كلها، فنعم، ما منحته من سعادة لحظية وربما تفوق ذلك من قصص ملهمة وغيرها، تجعلهم أهلًا للحصول على أموال طائلة، فببساطة كما قال كلوب، هم يجيدون رفاهية العصر، هذا هو حسن حظهم.
هل سيطرت الأموال على كرة القدم؟
الجانب السيئ من الأموال أنها بالفعل باتت كل شيء في كرة القدم، فقدت جوهرًا أساسيًا فيها وهو العاطفة والقصص الملحمية، هذا يفسر لماذا أن الجيل الجديد تخلى عنها إلى حد ما، في مقابل أن الأجيال القديمة لا تزال متعلقة جدًا بها.
الأندية التي تمتلك الأموال فقط من تحقق الألقاب إلا فيما ندر، خضعت الأندية الصغيرة لحقيقة أنها مجرد أداة للإعداد، لم تعد بنفس شغف الماضي أبدًا.
كرة القدم سيطرت عليها الأموال وستسيطر بصورة سلبية لا بإيجابية الماضي، الفجوة زادت، ومع كل زيادة فجوة غالبًا ستكون ثورة، لا أحد يعلم كيف سيكون شكلها، هل ستدمر الكرة أم تعيدها إلى صوابها؟
الأكيد الآن أن قضية ميسي فتحت الباب أمام أفكار كثيرة عن الأموال والاستحقاقية وغيرها، ولكنها سلطت الضوء على كارثة أكبر على الأعتاب.. انتهاء ملحميات خُلدت بسببها كرة القدم وجذبت عشق الشباب والمراهقين وحتى كبار السن.
