يضع ميسي رأسه بين ركبتيه وينظر إلى الأرض، لا يستطيع التفوه بأي كلمة، السيناريو الذي حدث لا يصدق، لقد لامس أطراف الحلم بيديه قبل أن يسقط متبعثرًا أمامه، أو ربما يتجسد في صورة أحدهم وهو يخرج له لسانه بابتسامة صفراء لا يحبها.
الحدث؟ نصف نهائي دوري أبطال أوروبا لموسم 2022، مباراة الإياب جمعت بين إنتر وليفربول، مواجهة بذكريات خاصة لميسي حيث حرمه الفريق نفسه من الحلم نفسه قبل 3 سنوات، في ليلة ريمونتادا أنفيلد الشهيرة.
هذه الليلة أشد قسوة على ليو من ليلة أنفيلد، حيث جاء كل شيء في السيناريو معاكسًا، الأمر الوحيد الذي تشابه هو قضاء ليلته وحيدًا تعيسًا، يسترجع شريط ما حدث ولا يصدقه.
Getty Imagesمباراة الذهاب كانت على ملعب أنفيلد وانتهت بفوز ليفربول بثلاثية نظيفة، لتقرع جماهير النيراتزورو طبول الريمونتادا في سان سيرو، معولة على ميسي الذي انضم إلى فريقهم في الصيف قبل الماضي، يثقون فيه رغم ما حدث في الموسم الأول من خيبات؛ لأنه ميسي بالطبع.
خيبات الموسم الأول تمثلت في موسم صفري معتاد للنيراتزوري مؤخرًا، والسبب هو تغيير المدرب مرتين لترتفع الحصيلة إلى 13 مدربًا في آخر 11 عامًا. امتعض ميسي من ذلك واستغربت الجماهير من امتعاضه، هم يتذكرون بالكاد آخر مرة قضى فيها المدرب ثلاثة مواسم متتالية بلا إقالة أو استقالة.
في مباراة الإياب امتلأت مدرجات سان سيرو وشوارع ميلانو، ونجح حينها الإنتر في بسط سيطرته على اللقاء بشكل كامل، لقد سجل لهم ميسي في الدقيقة الثالثة ثم في الدقيقة التاسعة عشر، وأكمل الهاتريك في شوط المباراة الثاني ليفرض أشواطًا إضافية على الريدز.
الأشواط الإضافية حملت العديد من الفرص الضائعة لإنتر وسط ذهول من ميسي الذي يرى عجز زملائه عن إنهاء المهمة بهدف رابع، ولكنه يأتي أخيرًا من ركلة حرة مباشرة تفجر مدرجات سان سيرو وتحرر ميسي الذي لامس أطراف الحلم والانتقام في آن واحد.
في تلك اللحظات بدأ لاعبو إنتر في تهدئة الأمور للحفاظ على النتيجة التي ستقودهم إلى نهائي دوري الأبطال للمرة الأولى منذ 2010، بالتأكيد هو شيء يستحق التحفظ قليلًا والتخلي عن الجنون رغم كونه شعارًا للنيراتزوري.
المدرب يدفع بمدافع إضافي لتأمين الخطوط، دي أمبروزيو يدخل ليؤمن الجبهة اليمنى التي يرمح بها ماني وروبرتسون بحثًا عن هدف الخلاص.
دي أمبروزيو في لحظة تجلٍ يمرر الكرة إلى الجانب الآخر بلا أي معنى، ليقتنصها ماني وينطلق نحو المرمى مسجلًا الهدف الذي رمى قنبلة الصمت على مدينة ميلانو بأكملها، وسط ذهول ميسي الذي يقول بداخله: تبًا! هل تعرف الحياة مثل هذه السيناريوهات؟
اعتاد ميسي واعتدنا جميعًا أن مثل هذه السيناريوهات تحدث في الحياة وفي كرة القدم لكي يعود الطرف الأضعف من بعيد، ليلة معجزة أسطنبول لم يكن من المقبول فيها أن يفوز ميلان بركلات الجزاء لأن الجنون بدأ لينتصر، وفي ليلة ريمونتادا أنفيلد التي كان ليو ضحيتها تفننت الكرة في معاندة لاعبي برشلونة لأن المعجزة يجب أن تكتمل، هو عرف الدنيا الذي لا يتغير، ولكن مهلًا، ألم تسأل عن إنتر قبل التوقيع يا ميسي؟
في الواقع لو سألت أحد المشجعين في ميلانو سيجيبك بكلمات بسيطة، مفادها أننا نحيا على هذه السيناريوهات، سيقص عليك ليلة مواجهة توتنهام في الدوري الأوروبي موسم 2013، حين خسر إنتر في لندن بثلاثية وعاد ليتقدم بثلاثية ثم يستقبل هدفًا ثم يسجل الرابع ثم يخرج وكأن شيئًا لم يكن، سيحكي لك تكرار الأمر ذاته أمام يوفنتوس في كأس إيطاليا 2016، 3/0 ذهابًا ثم 3/0 إيابًا تقلب الأمور ثم خسارة بركلات الجزاء، وأيضًا كأن شيئًا لم يكن، سيقص عليك ذلك بشيء من الفكاهة، دون أن يسأل لماذا تأتينا قبلة الحياة ثم نُطعن في النهاية.
Gettyمشجع إنتر لا يعبأ بما عانيته في برشلونة، لا ينظر إلى تحقيق لقبي الدوري والكأس مع بعض المشاكل الأوروبية كفشل كما ترى، هو شخص أكل عليه الدهر وشرب، أحلامه بسيطة، بالنسبة لك هي ليست أحلامًا على الإطلاق، هو رجل شاهد ناجاتومو يضع شارة القيادة على ذراعه خلفًا لزانيتي، وراهن على بيابياني في مواجهة سيطرة يوفنتوس، وملأ الدنيا ضجيجًا حين قررت إدارة ناديه التفريط في خدمات فريدي جوارين، قبل سنوات من امتعاضك بسبب تعاقد فريقك مع كوتينيو وديمبيلي وجريزمان بدون إضافة نيمار إليهم!
النيراتزورو أقسم بأفضلية ريكي ألفاريز عن ديبالا في وقت ما، ظن أن ثنائية جويل أوبي ويان مفيلا بأفخاذهما السمينة في وسط الملعب بإمكانها أن تعيد أمجاد الماضي، حين قرأ نبأ تعاقد فريقه معك ظنها كدبة إبريل رغم أنها حدثت في يوليو، هو شخص اعتاد توقع الأسوأ بصورة جعلته لا يصدق أن حلمًا من الممكن أن يتحقق، ورغم ذلك لم يتوقف عن الحلم والجنون أبدًا.
أي تخبطات إدارية في برشلونة تلك التي أزعجت ميسي؟ مدرب أقيل بسبب خسارة السوبر؟ فقط لأنه لم يسمع عن إقالة جاسبريني بعد 5 مباريات فقط من تعيينه، رفض الإدارة عودة نيمار إلى الفريق الكتالوني؟ هنا يوجد جواو ماريو وكوندوجبيا في قائمة أغلى 5 لاعبين في تاريخ النادي، اتفاق بارتوميو مع أشخاص لتشويه صورة اللاعبين أمام الصحافة؟ في إنتر أُرسل بريد إلكتروني يحمل خطط الفريق للموسم الجديد إلى صحيفة كورييري ديلو سبورت عن طريق الخطأ، كل شيء عانى منه ليو في كتالونيا تمثل أضعافه في ميلانو العادي الذي يحدث يوميًا.
ليلة الريمونتادا غير المكتملة كارثية على ميسي وقد تتسبب في اعتزاله كرة القدم وفقدان شغفه بها، ولكنها ليلة معتادة عاشها مشجع الإنتر عشرات المرات، بات يتغذى على النحس كما يتغذى ليو على الأرقام القياسية، وكما اعتاد البرغوث الأرقام ولم يعد ينبهر حين يسجل هاتريك أو يصل إلى الهدف رقم 750 في مسيرته، لم يعد النيراتزورو يشعر بأي غصة حين يودع حلمًا من أحلامه بهذه الطريقة الدراماتيكية.
بارتوميو يكشف موعد اعتزال ميسي
ميسي يرفع رأسه أخيرًا بعد دقائق من دفنها بين ركبتيه، يبدأ في الاستفاقة من كابوس الريمونتادا غير المكتملة، يدرك أن الحياة في برشلونة بكل خيباتها وإنجازاتها لا تشبه إطلاقًا ما يحدث هنا، وأن هناك وجهًا آخر للحياة غير ذلك الذي اعتاده، وجه اعتادت الجماهير فيه تلقي الخيبة تلو الأخرى ثم العودة للغناء في شوارع ميلانو "باتزا إنتر" دون ملل، أدرك أنه بات يحيا وسط بشر يعيشون على الحلم حتى مع افتقاد الأمل في رؤيته واقعًا.




