في زمن باتت فيه شبكات التواصل الاجتماعي مرآةً للمجتمع، ومؤشرًا لاتجاهاته وقادة الرأي فيه، تبرز كرة القدم الإسبانية بوصفها حالةً لافتة تستحق التوقف والتحليل في الفضاء الرقمي. فاليوم، لم يعد الأداء المميز داخل المستطيل الأخضر كافيًا لصناعة نجم عالمي؛ إذ أصبحت النجومية الحديثة رهينة القدرة على الحضور المؤثر عبر المنصات الرقمية، وجذب ملايين المتابعين، وتحويل اللحظة الرياضية إلى قيمة تسويقية قابلة للاستثمار. الأهداف والتمريرات الحاسمة لا تزال مهمة، لكن “الإعجابات” ومقاطع “تيك توك” والمنشورات على “إنستجرام” باتت، في كثير من الأحيان، عاملًا حاسمًا في ترجيح الكفة.
GOALكعب أخيليس
ولعل هذه المفارقة شكّلت لسنوات ما يشبه “كعب أخيليس” لكرة القدم الإسبانية على صعيد التسويق الفردي للاعبين. فهناك نجوم قدّموا مستويات فنية استثنائية، لكن حضورهم الرقمي ظل محدودًا مقارنة بنظرائهم في دوريات أخرى.
ويكفي التذكير بحالة رودري، الذي لا يمتلك حسابات نشطة على شبكات التواصل الاجتماعي، ومع ذلك نجح في حصد الكرة الذهبية، في استثناء يؤكد القاعدة أكثر مما ينقضها.
ويبرز مثال آخر يوضح الفجوة الرقمية بين نجوم متقاربين فنيًا: بيدري وجود بيلينجهام، فكلاهما يؤدي دورًا محوريًا في ناديه ومنتخب بلاده، ويشغل مركزًا متشابهًا، كما أن الفارق العمري بينهما لا يتجاوز عامًا واحدًا. ومع ذلك، يمتلك بيلينجهام أكثر من 40 مليون متابع على “إنستغرام”، مقابل نحو 20 مليونًا فقط لبيدري، ما يعكس الفارق في الاستثمار الرقمي لا في القيمة الفنية.
ملك التواصل الاجتماعي
وسط هذا المشهد، ظهر نجم شاب قلب المعادلة رأسًا على عقب، وكسر الصورة النمطية الراسخة حول اللاعب الإسباني وعلاقته بالإعلام الجديد. إنه لامين يامال، موهبة برشلونة الصاعدة، الذي بات حديث الساعة داخل الملعب وخارجه. صحيح أن سيرخيو راموس، القائد السابق لريال مدريد، تمكن عبر سنوات من بناء إمبراطورية رقمية تجاوزت حاجز 100 مليون متابع عبر “إنستجرام” و“إكس” و“تيك توك”، مستفيدًا من شخصيته الإعلامية الجذابة ومقاطع الفيديو التي سرعان ما تتحول إلى محتوى فيروسي. إلا أن صعود يامال السريع بات يهدد هذه الهيمنة.
يوصف لامين يامال اليوم بـ“ملك التواصل الاجتماعي” الجديد في كرة القدم الإسبانية. فاختراقه العالمي كان غير مسبوق، لا سيما بالنظر إلى عمره الصغير (18 عامًا). يتعامل مع المنصات الرقمية بعفوية تامة؛ لا يصنع اتجاهات بقدر ما يتحول هو ذاته إلى اتجاه. يشارك ما يراه ويفعله كما يفعل أي شاب من جيله، دون تصنّع أو التزام بقوالب تسويقية جاهزة، وهو ما جعله قريبًا من الجمهور، خصوصًا فئة الشباب.
(C)Getty Imagesسيرخيو راموس "الرائد"
في المقابل، يُنظر إلى سيرخيو راموس بوصفه الرائد الأول في هذا المجال داخل الكرة الإسبانية. لم يكن السبّاق زمنيًا فحسب، بل كان الأكثر طبيعية في تقديم ذاته، سواء عبر الموسيقى أو اهتماماته الشخصية أو ظهوره الإعلامي. ونتيجة لذلك، يمتلك أكثر من 67 مليون متابع على “إنستجرام”، ونحو 19 مليونًا على “إكس”، وأكثر من 20 مليونًا على “تيك توك”، أرقام تضعه في صدارة المشهد الرقمي الإسباني حتى الآن.
خلف راموس، وقبل انفجار ظاهرة لامين، جاء أندريس إنييستا، أحد أعظم لاعبي إسبانيا تاريخيًا، وصاحب قرابة 65 مليون متابع. ورغم تتويجه بكأس العالم واعتباره من قبل كثيرين أفضل لاعب إسباني عبر العصور، فإن حضوره الرقمي لم يمنحه الصدارة المطلقة.
كم عدد متابعي لامين يامال على المنصات المختلفة؟
اليوم، يمتلك لامين يامال أكثر من 78 مليون متابع عبر “إنستجرام” و“تيك توك”، ويواصل التقدم بخطى ثابتة. نجاح قناته الجديدة على “يوتيوب” دفعه للتصريح: “الآن نذهب إلى 10 ملايين”، في إشارة إلى طموحه الرقمي. رقصاته ومقاطع الفيديو القصيرة، التي ينتقدها بعض من لا يستوعبون ثقافة الجيل الجديد، كانت وقودًا رئيسيًا في هذا الصعود، لتضعه في المركز الثاني وتهدد عرش راموس، مع ترقب أن يكون كأس العالم الفيصل النهائي في هذا السباق.
وخلف الثلاثة الكبار، يأتي لاعبون بارزون مثل جيرارد بيكيه، إيكر كاسياس، إيسكو، ألفارو موراتا، بأرقام متابعة كبيرة لكنها لا تضاهي القمة. ويبرز إيسكو تحديدًا بأكثر من 30 مليون متابع على “إنستجرام”.
بين الموهبة والذكاء الرقمي
وتخلص هذه القراءة إلى أن الحضور الرقمي بات عنصرًا حاسمًا في صناعة النجم، فالوجود على جميع المنصات مهم، لكن الأهم هو القدرة على إنتاج محتوى أصيل يناسب كل منصة، مع الحفاظ على مستوى فني قوي داخل الملعب يشعل الشرارة الأولى.
وفي عالم باتت فيه الشاشات الصغيرة مؤثرة بقدر المستطيل الأخضر، يبدو أن كرة القدم الإسبانية تشهد ولادة جيل جديد يجمع بين الموهبة والذكاء الرقمي، ولعل لامين يامال هو عنوانه الأبرز.



