في ليلة باردة بمساحة صحراوية شاسعة يتوسطها عدة خيام متجاورة لتشكل أحد معسكرات اللاجئين المهاجرين من الحرب الأهلية في ليبيريا لقسوة الحياة في غانا، تلك المساحة يحدها من الجنوب خليج غينيا والمحيط الأطلنطي ورغم كثافة سكان المخيم فكل ما يسيطر على الأجواء هو الحزن والصمت.
برودة الجو القارسة وما يصاحبها من أجواء كئيبة هي التي تسيطر على كل شيء والأصوات كلها اختفت إلا حسيس النيران وكصيص الحطب وصوت تلك السيدة التي جاءت للمعسكر قبل أيام قليل وهي تصرخ ألمًا.
الجميع يحدث نفسه دون صوت عن ذكرياته المؤلمة في ليبيريا وما شاهدوه من أهوال، والأجواء العامة والنظرة على أوجه الكل عابسة إلا في خيمة أحدث سكان المخيم اللذان ينتظران مولودهما الأول، فهناك توجد بسمة أمل بمستقبل مشرق قد يأتي على يد ذلك المولود لكن تلك الابتسامة محاطة بالحذر والقلق المصاحبين للظروف الصعبة التي تحيط بالجميع.
فكرة أن يولد أول طفل لهما في بلاد أصبح رفع السلاح فيها ضرورة من أجل النجاة كانت لا تطاق بالنسبة للثنائي فرحلا لمعسكر اللاجئين فورًا.
"في بلادنا هناك بليبيريا كان يتوجب علينا أن نسير على الجثث حتى نخرج ونبحث عن الطعام، الأمر كان مرعبًا للغاية والخيار الوحيد كان الهروب"، قالتها تلك السيدة التي وضعت ذلك المولود.
المعسكر هناك في على حدود مدينة بودوبرام الغانية ليس الخيار الأفضل في المطلق لإنجاب أول أطفالكما، لكنه أفضل ما هو متاح في ذلك الوقت، وأن تولد في مثل تلك الظروف يجعلك لا تنتظر ما هو أحسن في نشأتك خلال السنوات التالية، فالأموال شبه معدومة والظروف المعيشية صعبة للغاية، والطعام بالكاد يكفيك لتعيش لليوم التالي، وفصول التعليم ما هي إلا رفاهية تسمع عنها فقط ولا تستطيع حتى مشاهدتها من بعيد، أما كرة القدم، فماذا تعني تلك الكلمة من الأساس؟

"الأمور كانت آمنة في غانا، لكن المعيشة كانت صعبة للغاية، بجانب القلق كوننا بجوار منطقة حروب كان هناك معاناة بالمعسكر بسبب الجوع الذي اجتاحه، نحن أنفسنا كنا نشرب المياه وننام، ولكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة لطفلنا وكل يوم كان يجب أن نتأكد من حصوله على أي شيء يجعله يستمر في الحياة"، قالها والد ذلك الطفل.
مرت خمس سنوات كانت هي الأصعب في حياة تلك الأسرة، قبل أن ينجحوا في الهرب لكندا ضمن أحد برامج إعادة التوطين، الحظ حالفهم أخيرًا ووجدوا بيئة أكثر أمنًا لهما ولذلك الطفل، وحلم تعليم هذا الفتى أصبح واقعًا فور رحيلهم لما هو خلف المحيط.
skysportsالظروف في مدينة إدمونتون خامس أكبر عواصم كندا في مقاطعة ألبرتا كانت مختلفة تمامًا، فالرعاية الصحية ضمنت للطفل حياة أفضل بجوار التعليم وتحسن ظروف الأسرة بشكل عام، حتى أن تلك الرفاهيات مثل كرة القدم أصبحت روتين يومي له.
"لقد كان أكثر اللاعبين هدوءًا بين الجميع، لو دخلت الغرفة في وجوده كأنك في تدريب جيش والرقيب قد ظهر فجأة بين ضباطه، والده ووالدته كانا يعملان طوال الوقت منذ قدومهما لكندا لذلك كان هو من يعتني بشقيقه وشقيقته الأصغر عمرًا بعد ساعات المدرسة، كان يغير الحفاظات ويحضر اللبن لهما قبل حتى أن يصبح مراهقًا، لقد كان مسؤولًا ومستقلًا والكثير من الأشياء الأخرى التي لا يعرف عنها أصحاب الـ 11 عامًا أي شيء"، قالها مهندس تكنولوجيا معلومات كندي عن ذلك الطفل.
رونالدو في باريس وسواريز يجاور عدوه.. صفقات صادمة قد تحدث هذا الصيف
ذلك المهندس يدعى نيك هوسيه عمل معه كمدرب لفريق الناشئين بنادي إدمونتون سترايكرز حيث كان ألفونسو ديفيس يلعب، وكان والد أحد شباب الفريق وتولى تدريبه فقط بعد رحيل المدرب السابق.
العناية بذلك الطفل لم تختف بالانتقال لكندا بالرغم من انشغال الوالدين بسرعة الحياة هناك ومحاولة كسب الأموال من أجل تأمين مستقبل أفضل لثلاثة أطفال.
فيكتوريا ديفيس والدة ألفونسو قالت في تصريحات لقناة نادي فانكوفر وايت كابس على "يوتيوب": "دائمًا ما كنت أتحدث معه وأخبره ألا يسير مع أصدقاء السوء، كنت أعلم أن ذلك قد ينهي مستقبله لكنه لم يخيب ظني فيه".
skysportsوأضافت: "كنت أشعر بالخوف فلقد رأيت ما يفعله هؤلاء الشباب في الشوارع لكنه وعدني ألا يتغير بعد الانضمام للنادي، ووعدني أن يجعلني فخوره به".
والدة اللاعب أرادت الأفضل له على كل المستويات فلم تجد سوى نيك هوسيه مدربه الأول ليكون وكيل أعماله، فالرجل هو أكثر من طور ديفيس على مستوى كرة القدم، ويكاد يكون شارك في تنشئته في ظل الانشغال الدائم للوالدين.
سريعًا بدأت الأندية تتهافت على الموهبة الشابة من خلف البحار وكان على رأسها مانشستر يونايتد الذي بعث ببرقية تطلب انضمام اللاعب للاختبارات في إنجلترا لمدة ثلاثة أسابيع لكن طلبهم وبل بالرفض من النادي الكندي الذي عوضه بأول عقد احترافي في مسيرته بعمر 15 عامًا.
في ذلك الوقت أصبح ديفيس هو أصغر لاعب في الدوري الأمريكي واستمر تهافت الأندية الأوروبية عليه وكان الدور هذه المرة على بايرن ميونخ الذي جاء ببرنامج شامل بدني وفني أثار إعجاب أبيه الروحي نيك هوسيه.
skysportsوقال هوسيه عندما سألته شبكة "سكاي سبورتس" عن العروض التي تلقاها اللاعب في ذلك الوقت: "لقد قابلت أكثر من فريق أوروبي بشأن مستقبل ديفيس لكن ما رأيته من بايرن ميونخ وخططهم له جعلني أقتنع أن ذلك هو المكان الأفضل بالنسبة له، بالأخص مع قرب رحيل ريبيري".
وأضاف: "عندما سألت الأندية التي أبدت اهتمامها به أخبروني أنهم سيرسلوه في إعارة أو سيلعب مع فرق الرديف لأنهم لا يثقون في قدرتهم على استخراج تصريح عمل له، كل ذلك كان عبر الهاتف أما في بايرن ميونخ فقد قاموا بعرض شامل بوجود كبير الكشافين ماركو نيبي والمدير الرياضي حسن صالح حميديتش".
بداية ديفيس في بايرن ميونخ لم تكن مثالية فحصل على 74 دقيقة فقط في نصف الموسم الأول الذي انضم فيه للفريق، فتحطمت نفسيته وأصبحت الأمور أصعب بالنسبة له.
وكيله هوسيه كان السبب في استمراره في القتال، وبالفعل جاء وقت ديفيس بعد أن ضربت الإصابات دفاع بايرن ميونخ وأثبت نفسه وكان بمثابة هدية الوداع من نيكو كوفاتش للفريق عندما منحه الفرصة.
تحول ديفيس مؤخرًا لوحش كاسر في مركز الظهير تتمنى كل فرق العالم أن تحصل على خدماته أو أن يكون لديها لاعب بنصف الإمكانيات التي يمتلكها.
نجح في التألق مع بايرن ميونخ في الدوري الألماني والكأس وتفوق على الكثير من النجوم الكبار وتألق أمام تشيلسي وبرشلونة وحطمهم تمامًا.
لكن كل ذلك لم يغير الكثير من شخصية اللاعب الذي حافظ حتى الآن على وعده لوالدته، وأظهر حقًا أنه سيجعلها فخوره به طوال الوقت.
ديفيس كان ولا يزال وأمامه الفرصة أن يصبح مثالًا يحتذى به في العمل ومدى الالتزام لو استمر على نفس الطريق الذي بدأه قبل سنوات في مخيم للاجئي الحرب الأهلية، واستمر عليه في رحلته لكندا وألمانيا وفي مسؤوليته تجاه أشقائه وحفاظه على وعده لوالدته.




